صهيل الأيام الخوالي
"بردت قهوتنا..
وانتهت قصتنا.. وانتهى الحب الذي كان..
نزار قباني
الردهة فسيحة، والستائر مسدلة، وصمت ثقيل يلف المكان، لا يخدشه إلا صوت خشخشة صفحات الجريدة التي يطالعها بكثير من الملل، وبشعور خانق يجثم فوق صدره، وكأنه يكتشف إحساساً مغايراً للمرة الأولى.
هل تمضي الحياة هكذا وهو يعد أيامها الرتيبة وكأنه يبحث في أعماقه عن أمور يفتقدها ولا يجد لها في الواقع بديلاً بينما الجُواء حوله تزداد برودة وضبابية؟
وهذه المرأة التي تقبع قبالته على الأريكة الوثيرة وهي تنسج الصوف، من هي.
هو يعرف أنها زوجته، ولكن، لماذا هذه الغربة القاتلة القائمة بينهما؟ إنها الجلسة اليومية المكرورة.. تأتيه بالجريدة وبفنجان القهوة، وتجلس قبالته صامتة وهي تحيك الصوف..
الردهة فسيحة، والستائر مسدلة، والتلفزيون صامت، وهدوء موحش يخيم بدوره على غرف الأبناء الذين كبروا، وتزوجوا، وسافروا إلى دنيا الله الوسيعة..
البيت الذي كان يضج بالمرح والحياة، أصبح أشبه بمتحف لا يغشاه إلا الذين بلغوا أعتاب الشيخوخة ولم يعد هناك ما يثير اهتمامهم إلا الرُقم الصامتة والتماثيل الباردة..
ولكنهما، هو وزوجته، لا يزالان في بداية مرحلة الكهولة، وهي ليست بعيدة، كثيراً عن ذروة الشباب التي ودعاها منذ أعوام قليلة، إذن.. لماذا هذا الموت المبكر؟ أين ذلك الصهيل الذي كان يأنسه في نفسه عندما يعود إلى البيت مفعماً بالحيوية والتوق إلى مجالسة رفيقة عمره التي تستقبله خفيفة، رشيقة، عذبة المبسم؟
ينظر إليها وهي جالسة تحيك الصوف وكأنه يحاول أن يتعرف إليها من جديد.. لقد ترهلت وهي ابنة الخامسة والأربعين.. أهملت نفسها.. تركت الرياضة التي كانت تمارسها، ولم تعد تراعي التوازن في طعامها..